وفي أمريكا بدأت أكتشف أمريكا.. بدأت أحاول أكتشاف هذا الحلم الذي غير وجه العالم وجعله مقصد الحالمين والمغامرين والباحثين عن أمل ..الحلم الذي جعل أمريكا أرض الفرص و(الألدرادو) والذهب .. كنت أفتش عن سر المعجزه.
لكن أمريكا لا تعطيك نفسها بسهوله.. ورغم أني أستأجرت سيارة وفتحت حسابا بنكياً وأستخرجت رخصة قيادة ومع الرفاق أستأجرنا شقة وكل ذلك في يوم واحد إلا أني بقيت أفتش عن المعجزه ..لأننا نحن القادمين من الشرق نؤمن بكل المعجزات إلا طاقة الأنسان.
دائما نبحث عن المعجزة في شىء آخر..في الجن في الحظ في دعاء الوالدين في الخواق..لكني هنا لم أر شيئاً من ذلك..لم أرى سوى الأنسان.
ولكن هل كنت سعيداً وقد هبطت أمريكا..؟ لا أبداً.. لا أبداً..لم إذا..لم إذا..؟
ربما لأني رفعت سقف أحلامي كثيراً و تصورتها أمريكا فردوسا سماوياً أهبط فيه فإذا الحسان ينتظرنني وأذا الحياة هنية كحلم وأذا كل شىء كن فيكون.. لكن أمريكا غير ذلك..ولقد كانت لي أمريكا وما زالت أرضا نائية جداًُ وقاسية جداً ومتكبرة جداً على البسطاء مثلي .

أبريل والثلوج تذي والشجر أخضر وأنا أيضاً
لقد زرت امريكا مرة اخرة وثالثه ورابعة وعشت فيها..وعبرتها شرقا وغربا من المحيط الى المحيط شمالا وجنوباً من كندا للمكسيك ونزلت افخم فنادقها وعرفت أجمل مآثرها ودخلت قواعدها العسكرية والسياسيه .. ..لكنها بقيت لدي امريكا ولم تزل ... ارضا بعيدة لا اشعر فيها بغير الشجن والبعد ويتملكني فيها الاحساس بالنفي..وجور المسافات وفردية الأنسان,
ولقد رايت جنسيات من مشارب كثيرة من الأرض .. تكدح هناك ليل نهار ..ولو عملت بنصف ذلك الجهد في بلادها لعاشت حياة رغد وترف ولما احتاجت الى وجع الغربه..غير انها تظل هناك تعمل في المطاعم و محطات البنزين اكثر من ثمانية عشر ساعة وفي بيع الجرائد و غسل الاطباق في الشوراع الخليفية فقط لتبقى في امريكا وليقال انها في امريكا ..وبعد ان تكبر ويمضى العمر يتعذر عليها العودة الى بلادها والبدأ من جديد ..وتمضي بقية العمر في صقيع الاغتراب والندم والخوف من النكوص ...كثيرون رأيتهم وقد أحرقوا مراكبهم وخذلوا.
وعرفت أني لم أكن أول من صدمته أمريكا..الأمريكيون يعرفون ذلك عن بلادهم..يسمون ذلك بالصدمة الحضارية أو الثقافيه ( Culture shock ) ..ويدرسونه للقادمين مثلي الذين يبقون معلقين بأمسهم والذين يفتقدون سماواتهم الحنونه وصوت أذان الفجر وأصوات الباعة وجرائد الصباح وايدي الطالبات الخارجات من خلف طغيان العبآت السود ..يفتقدون ضجيج الحياة الصاخب ..حياتنا التي ألفناها كل يوم.
وهناك كتبت أول قصة في مجموعتي القصصيه (طائر الليل) بعنوان مشهد لم يتم ..بدأتها :
عندما أوليتكم ظهري بكيت فيكم الحنان والأمان ووداعة الوطن ..وخرجت كضال يبحث عن هدايه سادراً في لجة الشجن مثقلا بحلاوة الذكرى التي لا تبوح.
لكني لا استطيع أن انفي عن امريكا انها ارض الاحلام الموعوده.. ..والحرية المسؤله وصيانة كرامة الانسان.
كنت أفتش عن سر عظمتها.. الذي يلمس ولا يرى.. هو ليس سراً واحداً ..وسبباً واحد ..اسباب كثيره لعله هو روح الجماعه ..تكافؤ الفرص ..الأحساس المطلق بالكرامة ..وقدسية القانون..أعني القانون الذي لا يعرف الأستثنائات أو التمايزات أو التفسيرات .. والكل سواسية.
عندما ظبطني رجل البوليس مسرعا ...قلت له اني لا اعرف القانون ولا اجيد اللغه الانجليزيه ...وقال لي ان بلدك كان يجب ان يعلمك اللغة والنظام قبل ان يرسلك ..او ليس لديكم نظام ..؟ وتظاهرت اني لم افهم سؤاله وكان يعرف أني أعرف ..العشرات مثلي قابلهم ..وللاسف والى الان وبعد كل تلك السنوات من تلك الحادثه..أتسآل هل توجد لدينا أنظمه..؟أتمنى أن اقول نعم ..لكني ما أن أخرج الى الشارع حتى أرى القانون قتيلا..وما أن أدخل أي دائرة حكومية حتى أرى القانون يستجدي ويستجدى ..وعندما أفتش حولي لم لم ؟؟ ولا أجد الجواب.
كم أبدو مملا عندما أتحول الى واعظ.
بعد ثلاثة أشهر من الدراسة الفصلية في تلك المدينة الجنوبية والتي تقطنها وزعنا ثلاثتنا على ثلاث سفن حربية للتدريب العملي..هناك في المحيط.
نواف طار الى برتريكو القريبة من كوبا ..ثواب طار الى (كي وست) في اقصى خاصرة فلوريدا..وانا سافرت الى مدينة (نيوبورت) في ولاية (رود آيلاند) الصغيرة في الشمال القريبة من ماشسيوتس ..كانت هذه المدن قواعد بحرية كبرى أثناء ذروة الحرب البارده..عندما كانت أمريكا تمتلك أكثر من ستمئة سفينة قتالية عدا سفن الدعم والنقل والأسناد .
و من ميناء (نيو بورت) وقريبا من ميناء نيو بدفورد (NEW BEDFO

)أبحرت جنوبا في المحيط الأطلسي كما أبحر ذات يوم (آخاب) بطل روية (مولي دك) لهرمان ملفيل..لكني أبحرت لأعود بعد شهر..وليس كآخاب الذي صارع قدره الأقوى والأحمق ولم ينهزم رغم كل جراحاته.
هرمان ملفيل عمل مثلي في البحرية الأمريكيه..وها نحن أذا رفاق.

في مثل هذه السفينة المختصة بكشف ونزع الألغام أبحرت
وكان الأبحار كل هذه الفترة وسط ظروف جوية قاسية تجربة آخرى..تجربة جسدت لي عظمة وقوه وأصرار هؤلاء الناس الذين ينتمون لكل زوايا الأرض ..والذين فقط بأصرارهم اكتشفوا كم هي الطاقات الكبيرة داخلنا..وكم هو عظيم ومتفرد هذا الأنسان.
ولكن هل هذه هي كل أمريكا..؟
لا أبدا..الحضارة الأمريكية شىء مختلف والحياة في المجتمع الأمريكي شىء آخر ..وهذا ما لمستة في المرة الثانية بعد أن عدت اليها بعد ستة أعوام..وهنا وجدت أمريكا أقل بطشاً وقسوة.. وأكثر وهجا وحناناً وما الذي تغير..؟ ذلك أني جئتها هذه المرة وأنا أحتمي بالوطن..جئت معي بوفاء زوجتي..والزوجة الوفية وطن شاسع وطن يقهر عنك جور المسافات ويجعل كل السماوات رحيمه .[/