[gl]سهرة على السطوح [/gl]
بعد يوم مطير عبَّت فيه الأرض ماءً حتى لفظت منه أكثر مما امتصته ليبقى شاهداً على الدقة الهندسية في تصميم ورصف الشوارع !!! ولو أن أحدهم غامر بمرور السيارة عبرها قد يدفع به ذلك إلى استجداء بعض المارة لمساعدته في دفعها جانباً بعد أن كتمت أنفاسها تلك البحيرات، وقد يكون محظوظاً إن وجد من يضحي باتساخ نصفه السفلي وهذا قلما يحدث دون مقابل.
ما استهواني في تلك الليلة النسمات العليلة وجعلتني أفكر بجدية وأنا في طريق عودتي إلى المنزل أن أهاجر كالطيور، قررت أن أبتعد عن أزيز المكيف وصخب الأطفال وضجيج التلفاز ودهاليز الانترنيت وأن أكسر تلك الدائرة التي ارتسمت حولي بمرور الأيام .ولكن إلى أين ؟ سؤال لم يدم طويلاً حتى جاءت الإجابة عنه باستفهام آخر . لماذا لا تكون إلى السطوح؟
فكرة رائعة . السطوح المكان الذي اعتدت على زيارته كلما انحرف ذلك الشاخص إلى عنان السماء لاصطياد ثقافات ملونة تنطلق إشاراتها من كوكبة الأقمار الصناعية، وتذكرت كم هي العناية الفائقة التي أوليناها لذلك المدعو (سطح) وفي النهاية لم يسكنه سوى ذلك الدش مقابل أن يفسد ما بقي من أذواقنا تارة ويدمي قلوبنا تارة أخرى.
المهم ... اتخذت قرار الهجرة إلى السطوح... دخلت المنزل وصممت على نقل بروتوكولاتي إلى هناك ...حملت فراشاً.. وتأبطت وسادة...وأمسكت بتلابيب دورق الماء ومثله ترمس الشاي، لملمت كل لوازم ذلك البروتوكول وشرعت أصعد على درجات السلم بتثاقل أنوء بحمل كان يمكنني نقله على مراحل لولا أني كغيري أتكاسل حتى وأنا في قمة النشاط تحت ستار الاختصار.
وأخيراً وصلت إلى السطح في الوقت الذي زاد فيه طول لساني بضع سنتمترات كونها المرة الأولى التي أبذل فيها مجهوداً بهذا الحجم خاصة وإني لا أذكر من الرياضة سوى طابور الصباح الذي كنت أؤديه بتثاقل في غفلة ممن كان يصدر أوامره بـ(واحد-اثنين-ثلاثة-اببعة) ولا زلت أحفظها بعد عقدين من الزمن .
الحاصل.. اخترت لنفسي مكاناً استراتيجياً في المستر (سطح) حيث تتلاطم نسمات الهواء ممنياً نفسي بسهرة ممتعة لم أعتدها منذ زمن غابر.
مضت ساعة من الزمن وأنا أدغدغ حلمات ذكرياتي وأقلب أوراق دفاترها المختزنة في مخيلتي ، ولم أصح من أحلام يقظتي إلا بعد الحادية عشرة حيث تحولت النسمات إلى ريح تزورني كل بضع ثوان ويغيب مثلها وكلما أتتني حملت إلي ضجيجاً لم أعهده إلا في رحلة ذهابي إلى (سوق الاثنين) وعودتي منه ، ذلك لأن طريقي إليه كان يخترق (المجلاب) ولكم أن تتخيلوا ما كان يحويه ذلك المجلاب قبل خمس وعشرون إلى ثلاثون سنة!!!. شتى أنواع الحيوانات التي يأتي في مقدمتها صاحب الصوت المستنكر الشهير .
عموماً.. لم أفاجأ بذلك الصوت الذي كانت تواتيني به الريح بين الفينة والأخرى لعلمي مسبقاً بأنني أسكن على مرمى حجر من ما يسمى بـ(قصر الأفراح) ولا أدري من أين جاؤوا بتلك التسمية التي شذت به عن المسمى الحقيقي (صالة ألعا... أفراح) أما ذلك الصوت فهو صادر عن ما يطلق عليه جزافاً(المطربة)وعرفاً (الطقاقة) وأذناً (الصراخة).
عرفت من نشاز الصوت أن صاحبته لا تعرف أدنى مبادئ الـ(دو-ري-مي-فا-صو-لا...) أو ما يسمى بالسلم الموسيقي ولا تعرف من الحروف سوى (الهاء الممدودة والقاف المقلقلة)، وأخذت تصرخ بأغان وتشوه كلمات طالما طربت لها أيام شبابي. ولا أدري ما سر سكوت أصحابها على من يفسد تاريخهم. تذكرت حينها ما كان يتسرب إلى سمعي عن أسعار (المطربات!!!) ثلاثون ألفاً لأقلهن شهرة!!! ويبقى التناسب الطردي بين شدة النشاز وزيادة المبلغ ، وقد تحتاج إلى (واو)وبخط الثلث حتى تحظى بإحيائها لليلة العمر وتخريمها-أقصد-تشنيفها لآذان (معازيم حماتك) المصون.
وعلى كل حال....لا غرابة في ذلك طالما أن (الجنون فنون)وقد يكون ذلك في ذيل القائمة حينما نذكر بكم بيعت تلك اللوحة المخربشة في مزاد عالمي.
وما زاد الطين بلة .. رائحة ركام محترق بدأت تأتي بها الريح عندما افترقن عقارب الساعة بعد اجتماعهن في الثانية عشرة منتصف الليل. رائحة اعتدنا إدمانها منذ سنين . إنها رائحة المرمى أو (المحرقة)، تصل إلينا ونحن الأبعد عن غيرنا منها فكيف بجيرانها؟ قرى تجاوز نسبة الأمراض الصدرية فيها الحد الطبيعي بشكل لافت للنظر ولكن للذي يملكه!! والروائح تلف الأنوف لا تصمد معها أجود الكمامات والفلاتر.
فجأة.. تعالى صرير إطار سيارة في الشارع المجاور .. وقفت منتصباً ..هرعت إلى الحائط الساتر ..دفعني الفضول إلى (مط) رقبتي لأكسر ارتفاع الساتر البالغ مترين ولأسجل رقماً قياسياً جديداً في (المط) .. كل ذلك لا إرادي وتحت سيطرة الخوف من أن يكون حادث مؤلم لأحدهم ...يتعالى صفير وصيحات تشجيعية صادرة عن شباب تجمهروا في تلك الفسحة من الشارع .. سيارة ثملة تترنح وتسير على غير عادتها ليس باتجاه ما رسم لها..تزحف،تحبو،تتراقص،تتمايل، خلتها تسير في كل اتجاه في اللحظة نفسها ..تعتدل ثم تنطلق ومن شرفتها الأمامية تخرج يد يسرى بحجمها الصغير وتلوح للمتجمهرين تعبيراً عن الامتنان وقبل أن تغيب تخلفها سيارة أخرى ببهلوانية مجنونة ...تتصاعد رائحة الإطارات المحترقة من شدة الاحتكاك لتمتزج مع روائح المحرقة التي لم تغب بعد.
تراجعت إلى الوراء بعد أن أرخيت عضلات رقبتي لتعود إلى وضعها الطبيعي مضحياً بمشاهد التفحيط المغرية في سبيل الحفاظ على حرمة الجار.
أما البعوض .. فلن أتحث عنه!!! كونه صار مستأنساً بالنسبة لنا.. توسط بيننا التكيف فزاد من سماكة جلودنا بشدة (الهرش) التي مارسناها على مر السنين وأصبحت دماؤنا بعيدة المنال على (شواربه).
بعد الساعة الثانية منتصف الليل أو قل (صباحاً) بدأت زخات المطر بالنزول وبدأ معها حماسي بالبقاء يتهاوى حتى وصل درجة الصفر المؤوي عندما بدأت معداتي الهجروية تتشبع بالماء .. حملتها وعدت قافلاً أترنح على درجات السلم بعد أن تضاعف حملي حينما تشبع الاسفنج ماءً مما ذكرني بقصة شهيرة لعلكم تعرفونها!!!.
دلفت إلى البيت .. المكيف..التلفاز..ضجيج صغاري. كل ذلك تحول إلى سيمفونية لم يتوصل إليها بيتهوفن وأقرانه قياساً بما عانيته من تلك السطوح.
ختاماً: إذا استهوتك السطوح نصيحة لا(تروح).
وتبقى الحلول............
-----------
تحياتي