صالح الديواني

الوطن


حديث وجدل جميل بين صديقين جليلين لي، يمثلان جيلين من المعلمين في المملكة. طرح كل منهما ما في جعبته من الثراء المعرفي والخبرات التراكمية عن التجربة التعليمية في المملكة. نادى ممثل الجيل الأقدم المتقاعد بأحقية نجاح كل طالب مهما كانت محصلته من الدرجات الاختبارية النهائية، وأن يتم منحه كامل درجات أعمال السنة الـ(40)، من منطق أنه قد تلقى الدرس وليس عليه أن يفعل أكثر، لأنه لا وجود لإنسان غير نجيب في الأصل. وأن الوزارة يجب أن تعيد النظر في سياستها التعليمية الحالية، التي يُطلب من خلالها الالتزام باختبارات نصف سنوية أو نهائية. وأن الطلاب يجب أن يُمنحوا النجاح وشهادة التخرج على أساس أنهم قد تلقوا الدروس كاملة. وهذا المبدأ قد يكون سليما عند علماء الاجتماع وعلماء النفس. لكن المآخذ عليه كثيرة جدا حسب رأيي. في المقابل تبنى ممثل الجيل اللاحق من المعلمين منطق رفض مبدأ (الكم على حساب الكيف)، الذي يعضده مبدأ غياب الإنسان الثقيل الفهم (الغبي) بلغة مختلفة. وسرد من خلال حديثه بعض رؤيته عن تجربته التعليمية. معللا صحة مقولته وموقفه بالنتائج الخطيرة التي أفرزتها سياسة التركيز على الكم أكثر من الكيف. والتي بدورها أفرزت ناتجا هائلا من الخريجين فاض عن حاجة القطاعات العملية التعليمية وحتى غيرها. والمشكلة الأدهى هي أن نسبة كبيرة من ناتج الخريجين كان ضعيف الثقافة إلى حد كبير أيضا. فمن الأخطاء الإملائية الفادحة إلى قلة المخزون المعرفي وصولا إلى تدني مستوى الاهتمام العملي بشكل عام. فإذا أردنا تطبيق المثال الأول (التقييمي) الذي يحاكي في جوهره الأنظمة التعليمية الغربية (الأميركية مثلا)، فنحن أولا بحاجة ماسة إلى تجهيز المبنى المدرسي للصفوف الأولى بما يتلاءم مع الطقس التعليمي وأفكاره ليكون مناسبا ولكل مرحلة تجهيزاتها المختلفة. وقد سعت وزارة التربية والتعليم في الواقع لتطبيق مثل تلك التجارب التعليمية، إلا أنها لم تكن بمستوى الطموحات الملبية للحاجة. أو أن التوقيت قد خانها على ما يبدو. يحكي لي أحد أصدقائي المنتمين إلى سلك التعليم، أنه رد على أحد منسوبي الوزارة أثناء زيارته لهم (بمدينة جدة)، حينما طرح المسؤول تساؤله عن عدم نجاح التجربة التعليمية الحديثة الجزئية في بعض المناطق! برده: "ياسيدي كيف تتوقعون أن تنجح تجربة تطبيق التعليم الحديث في ظل غياب أهم عناصر النجاح (المبنى المدرسي المؤهل، المنهج المتكامل، والمعلم الواعي). دعك من كل هذا كيف تتوقعون نجاح مثل هذه التجربة، و50% تقريبا من مباني مدارسنا مستأجرة، وغير مصممة لتكون مدرسة في الأصل". أطروحات كثيرة خاضت في مسألة التعليم منذ زمنٍ طويل. لكننا لم نستفد منها في الواقع وتركناها تمر حبرا على ورق أو ثرثرة عابرة لم نهتم لشأنها. لقد حدثت الطفرات التعليمية في العالم من حولنا ونحن متفرجون. وأهم تلك الطفرات على الإطلاق هي التجربة التعليمية الصينية. التي هزمت بيروقراطية التعليم التقليدي. وتخلت عن المرجعية المركزية للقرار الوزاري. لتقوم بقلب نظام الهرم البيروقراطي في ذلك الشأن وتمنحه للقاعدة الأعرض المتمثل في (جيش المعلمين). وأُرجعت قرارات تطبيق التجارب التعليمية إلى إدارات المناطق، بحيث تتخذ كل منطقة قرار الموافقة أو الرفض على أي اقتراح يتبنى طريقة ما في إيصال المعلومة حسبما تقوم عليه ثقافة المكان والزمان. والتي نرى نجاحاتها تتحقق على الأرض وتفوق الخيال". أما نحن فما زلنا بكل أسف على نفس النموذج التقليدي التلقيني القديم، ولم يحدث تقدم حقيقي على مستوى التعليم إلا فيما يحاكي الشكل والمكان فقط. فانتقلنا من تحت الشجرة والرجل الشيخ الطيب والكتاتيب، إلى مبان أسمنتية جميلة وفصول مكيفة تشبه علب السردين أحيانا، واستمر الحال بترديد أطفالنا (ألفٌ، باءٌ، تاءٌ، جيمٌ، حاءٌ....إلخ). لكنني هنا سأطرح فكرة البدء في تشكيل نظام تعليمي عربي جديد نطلق عليه (المدرسة العربية). تقوم في أساسها على نتائج دراسات عربية خالصة، تضع مصنفاتها ورؤيتها المستقبلية لتحريك مياه حركة التعليم العربية الراكدة. وتضمين الحاجة العربية الملحة لطرح نظام تعليمي عربي بديل ربما نؤسس من خلاله لفكرة (المدرسة العربية). وهو الذي أعتبره أحد أحلامي المهمة. أعتقد أنه لا شيء ينقصنا لنقوم بذلك في ظل وجود وتوافر المادة والقوة البشرية والانفتاح على العالم من حولنا. ونحاول الخروج من سيطرة هوس فكرة الركض والهرولة خلف تطبيق نموذج المدرسة الغربية الأميركية تارة، أو نموذج المدرسة اليابانية تارة أخرى. أكثر من (15 عاما) مضت على حديث الدكتور الربيعي ولم يتغير شيء بكل أسف. فلماذا نستمر على وضع يصنف مخرجات التعليم لدينا بطريقة (أنت وحظك) أو "شختك بختك". لماذا لا نبحث عن نموذجنا الخاص الذي يتوافق مع ثقافتنا ولغتنا العربية. ونقوم بعقد اللقاءات الفكرية العربية في محاولة جدية لبدء مرحلة تعليمية هائلة تعيد لنا قليلا من الوهج المعرفي الأممي. وصدقوني نحن العرب نستطيع أن نفعلها أيضا.