بسم الله الرحمن الرحيم
هذه أيها الأحبة مقالة جديدة لشيخنا أبي عبد الله حمزة (وفقه الله)، نفعنا الله وإياكم بها.
الدنيا.... إلى أين؟!!
الحمد لله رب العالمين، و الصلاة والسلام على أشرف المرسلين،نبينا محمد و على آله،وصحبه أجمعين.
أما بعد:
إنَّ هذه الدنيا مهما امتد أجلها وطال أمدها فهي ومن عليها إلى فناء وزوال بحكم الكبير المتعال، يقول سبحانه (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ )[ الرحمن : 26-27].
يقول الإمام ابن كثير- رحمه الله-:" يُخبر تعالى أن جميع أهل الأرض سيذهبون ويموتون أجمعون، وكذلك أهل السموات، إلا من شاء الله،ولا يبقى أحد سوى وجهه الكريم؛ فإنَّ الربَّ -تعالى وتقدس-لا يموت،بل هو الحي الذي لا يموت أبدا ". تفسير ابن كثير (4/273)
فالدنيا أيها الأفاضل مهما غرَّت أبنائها وفَتنت أصحابها فهي زينةٌ مضمحلة ٌومتاعٌ زائلٌ ، يقول جل وعلا :{وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ } [ آل عمران : 185].
يقول الشيخ السعدي – رحمه الله- :"هذه الآية الكريمة فيها التزهيد في الدنيا بفنائها وعدم بقائها، وأنها متاع الغرور، تفتن بزخرفها، وتخدع بغرورها، وتغر بمحاسنها، ثم هي منتقلة، ومنتقل عنها إلى دار القرار، التي توفى فيها النفوس ما عملت في هذه الدار، من خير وشر". تفسير السعدي ( ص160)
وأهلها مهما طال بهم الوقت وامتد بهم العمر عنها راحلون، وعن شهواتها ولذاتها منقطعون ،ولأهلهم وأصاحبهم مفارقون، يقول الإمام النووي-رحمه الله-:" فإنها – أي الدنيا- دار نفاد لا محل إخلاد، ومركب عبور لا منزل حبور، ومشروع انفصام لا موطن دوام". رياض الصالحين(ص3).
ولما كان بتلك الحال!والمآل! أيها الأحبة الكرام فقد أعطاها العزيز العلام لمن أحبَّ ومن لم يحبَّ من الأنام!،فعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنَّ اللَّه يُعطي الدنيا من يُحبُّ و من لا يحبُّ،ولا يُعطي الإيمان إلا من أحبَّ ". رواه الحاكم في المستدرك (1/88)،وصححه الشيخ الألباني –رحمه الله- في السلسلة الصحيحة (2714)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- :"ليس كل من أعطى مالا أو دنيا أو رئاسة كان ذلك نافعا له عند الله، منجيا له من عذابه، فإن الله يعطى الدنيا من يحب ومن لا يحب،ولا يعطى الإيمان إلا من يحب". مجموع الفتاوى( 22/447).
إنَّ الكيس الفطن من العباد هو الذي لم يغتر بزخرف وزينة هذه الدنيا الدنيَّة ولم يضيع عمره بالركض وراء شهوات رديَّة وعمل بما أوصى به خير البريَّة، فعن عبد الله بن عمر –رضي الله عنهما-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له:"كن في الدنيا كأنَّك غريبٌ أو عابرُ سبيل". رواه البخاري (6053)
يقول الإمام ابن رجب- رحمه الله-:" وهذا الحديث أصل في قصر الأمل في الدنيا، فإن المؤمن لا ينبغي أن يتخذ الدنيا وطنا ومسكنا فيطمئن فيها،ولكن ينبغي أن يكون فيها كأنه على جناح سفر يهيئ جهازه للرحيل".جامع العلوم والحكم (ص379)
واستحضر في نفسه أيها الأحبة الأخيار أنها ملعونة ومن العزيز الجبار مَبعودة ، فعن أبي هريرة – رضي الله عنه- قال سمعت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقول:" ألا إِنَّ الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ ما فيها إلا ذِكْرُ اللَّهِ وما وَالَاهُ، وَعَالِمٌ، أو مُتَعَلِّمٌ". رواه الترمذي ( 2322) ، وحسنه الشيخ الألباني- رحمه الله- .
يقول الملا علي قاري – رحمه الله- :"( إِنَّ الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ) أي: مبعودة من الله لكونها مبعدة عن الله (مَلْعُونٌ ما فيها) أي مما يشغل عن الله (إلا ذِكْرُ اللَّهِ ) بالرفع ، وفي نسخة بالنصب وهو استثناء منقطع . (وما وَالَاهُ ) أي: أحبه الله من أعمال البر وأفعال القرب . أو معناه ما والى ذكر الله ، أي قاربه من ذكر خير أو تابعه من اتباع أمره ونهيه ، لأن ذكره يوجب ذلك" .مرقاة المفاتيح ( 9 /372)
ويقول المناوي – رحمه الله- :"( وعالماً أو متعلماً ) أي هي وما فيها مبعد عن الله إلا العلم النافع الدال على الله فهو المقصود منها فاللعن وقع على ما غر من الدنيا لا على نعيمها ولذتها، فإنَّ ذلك تناوله الرسل والأنبياء ".التيسير بشرح الجامع الصغير ( 2 / 14)
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله- :"فكل عمل يعمله العبد ولا يكون طاعة لله وعبادة وعملا صالحا فهو باطل فإن الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما كان لله وإن نال بذلك العمل رئاسة ومالا فغاية المترئس أن يكون كفرعون وغاية المتمول أن يكون كقارون ".مجموع الفتاوى ( 8 / 76)
ويقول الإمام ابن القيم – رحمه الله-: "ولما كانت الدنيا حقيرة عند الله لا تساوي لديه جناح بعوضة كانت وما فيها في غاية البعد منه وهذا هو حقيقة اللعنة ".مفتاح دار السعادة ( 1 /69)
وأنَّ هذه الدنيا إنما أوجدها العزيز العظيم لتكون للعباد دار عمل ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ، يقول الإمام ابن القيم-رحمه الله-:"وهو سبحانه إنما خلقها مزرعة للآخرة ومعبرا إليها يتزود منها عبادة إليه ". مفتاح دار السعادة (1/69)
فاسع فيها وأكثر فيها من فعل الطاعات و التزود من الخيرات، لأنَّ هذا الذي ينفعك يوم الوقوف بين يدي رب البريات بإذن رب الأرض السموات،يقول الشيخ السعدي –رحمه الله-:"إن الحياة التي ينبغي السعي في كمالها وتحصيلها وكمالها ، وفي تتميم لذاتها ، هي الحياة في دار القرار، فإنها دار الخلد والبقاء". تفسير السعدي (ص 924)
وإنَّ المحروم من العباد هو الذي غرته الدنيا بشهواتها وشغلته بملذاتها عن يوم الميعاد، يقول الإمام ابن القيم –رحمه الله- : "وأعظم الخلق غرورا من اغتر بالدنيا وعاجلها فأثرها على الآخرة ورضي بها من الآخرة".الجواب الكافي (ص 22)
فالأنام في هذه الدنيا الزائلة أيها الأفاضل الكرام على قسمين :
فمنهم من جعلها مزرعة للآخرة الباقية فلم يفتن بزينتها ولم تصرفه عن همِّه الحقيقي ومبتغاه الأصلي ألا وهو رضا الرحمن والفوز بما عند العزيز المنان الدار الباقية، فهذا من أهل الفوز والفلاح، يقول جلَّ وعلا : (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ) [ البروج : 11].
يقول الإمام الطبري– رحمه الله- :"{ذلك الفوز الكبير }يقول: هذا الذي هو لهؤلاء المؤمنين في الآخرة، هو الظفر الكبير بما طلبوا والتمسوا بإيمانهم بالله في الدنيا، وعملهم بما أمرهم الله به فيها ورضيه منهم ".تفسير الطبري (30 / 137)
ومنهم من غرَّته بزخرفها وألهته بملذاتها وفتنته بشهواتها فكانت هي همّه ! فصرف فيها وقته وبذل في تحصيلها جهده وانشغل بها عن عبادة خالقه جلَّ جلاله فهذا قد باء بالحرمان وكان من أهل الخسران، فعن أَنَسِ بن مَالِكٍ - رضي الله عنه- أنَّ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال:" من كانت الْآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ الله غِنَاهُ في قَلْبِهِ، وَجَمَعَ له شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كانت الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ الله فَقْرَهُ بين عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عليه شَمْلَهُ، ولم يَأْتِهِ من الدُّنْيَا إلا ما قُدِّرَ له ". رواه الترمذي ( 2456) ، وصححه الشيخ الألباني – رحمه الله-.
يقول المباركفوري – رحمه الله- :"( من كانت الْآخِرَةُ) بالرفع على أنه اسم كانت (هَمَّهُ) بالنصب على أنه خبر كانت أي: قصده ونيته ... (جَعَلَ الله غِنَاهُ في قَلْبِهِ) أي: جعله قانعًا بالكفاف والكفاية كيلا يتعب في طلب الزيادة، (وَجَمَعَ له شَمْلَهُ) أي: أموره المتفرقة بأن جعله مجموع الخاطر بتهيئة أسبابه من حيث لا يشعر به، (وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا) أي: ما قُدِّر وقُسم له منها،(وَهِيَ رَاغِمَةٌ) أي: ذليلة حقيرة تابعة له، لا يحتاج في طلبها إلى سعي كثير بل تأتيه هينةً لينةً على رغم أنفها وأنف أربابها، (وَمَنْ كانت الدُّنْيَا هَمَّهُ) ... (جَعَلَ الله فَقْرَهُ بين عَيْنَيْهِ) أي: جنس الاحتياج إلى الخلق كالأمر المحسوس منصوبا بين عينيه (وَفَرَّقَ عليه شَمْلَهُ) أي: أموره المجتمعة ، قال الطيبي : يقال جمع الله شمله أي ما تشتت من أمره ،وفرق الله شمله أي ما اجتمع من أمره فهو من الأضداد (ولم يَأْتِهِ من الدُّنْيَا إلا ما قُدِّرَ له) أي: وهو راغم فلا يأتيه ما يطلب من الزيادة على رغم أنفه وأنف أصحابه ".تحفة الأحوذي (7 /139)
فمن أراد السعادة والنجاة والفوز في الدارين فليكن همه رضا رب العالمين يقول الإمام ابن القيم – رحمه الله-:" إذا أصبح العبد وأمسى وليس همه إلا الله وحده تحمل الله سبحانه حوائجه كلها، وحَمل عنه كل ما أهمه، وفرَّغ قلبه لمحبته ولسانه لذكره وجوارحه لطاعته، وإن أصبح وأمسى والدنيا همه حمَّله الله همومها وغمومها وأنكادها، ووكله إلى نفسه فَشغل قلبه عن محبته بمحبة الخلق، ولسانه عن ذكره بذكرهم، وجوارحه عن طاعته بخدمتهم وأشغالهم، فهو يكدح كدحَ الوحش في خدمة غيره كالكِير يَنفخ بطنه ويعصر أضلاعه في نفع غيره فكل من أعرض عن عبودية الله وطاعته ومحبته بُلي بعبودية المخلوق ومحبته وخدمته".الفوائد (ص 84)
فعلينا إن أردنا الربح والنجاة أن نصرف أوقاتنا وأعمارنا في كل عمل يُقربنا من خالقنا ومولانا جلَّ وعلا، يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله-:"أعظم الربح في الدنيا أن تشغل نفسك كل وقت بما هو أولى بها وأنفع لها في معادها".الفوائد(ص 31)
ولنحذر أشد الحذر من أن نُقدم الفاني على الباقي لأنه عمل غير العقلاء!، يقول الإمام ابن القيم – رحمه الله-:" كيف يكون عاقلا من باع الجنة بما فيها بشهوة ساعة ".الفوائد (ص 31)
ولنبادر بالتوبة وبالإكثار من الأعمال الصالحة قبل أن نندم ونتحسر على ما مضى وفات! ونقول يوم وقوفنا بين يدي رب البريات كما يقول من فرَّط في حياته وضيع أوقاته: (يا ليتني قدمت لحياتي) [الفجر:24].
يقول الإمام الطبري –رحمه الله-:" يقول تعالى ذكره مخبرا عن تلهف ابن آدم يوم القيامة وتندمه على تفريطه في الصالحات من الأعمال في الدنيا التي تورثه بقاء الأبد في نعيم لا انقطاع له (يا ليتني قدمتُ لحياتي) في الدنيا من صالح الأعمال لحياتي هذه التي لا موت بعدها" . تفسير الطبري (30 / 189)
فالله أسأل بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن لا يجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا إلى النار مصيرنا، وأن يُوفقنا جميعا لكل ما يُحبه ويرضاه ومن ذلك عدم الاغترار بالدنيا وزينتها،وأن يُجنبنا وإياكم كل ما يُبغضه ويأباه ومن ذلك الانشغال بشهوات زائلة! والركض خلف ملذات فانية!، فهو سبحانه قدير وبالإجابة جدير .
وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أبو عبد الله حمزة النايلي